Pages

Sunday, July 14, 2019

مشاهدة الله، وخروج عن الصمت، وأشياء أخرى..

"متى نعتاد الصمت؟
عندما نفتح قلوبنا فلا نجد مستمعا، وعندما نقترب من حبيب فيبتعد، عندما نشعر أن كلامنا لا يُفهم، وإن فُهم لا يصدق.
كل منا يبحث عن مساحة أمان يتعرى فيها ويبث فيها أسراره، فإن وجدها ثم فقدها عاد أشد صمتًا وأكثر حذرًا.
كل منا يبحث عمن يفهمه عند صمته، ويراه بعين المحب عند ضعفه، فيفهم ما لم يقل ويحب ما قال، فإن احتجنا للتجمل واحتاجت معانينا للبيان، عدنا أكثر صمتًا وأشد كتمانًا.
كل منا يبحث عن مساحة لا يعمل فيها سوى قلبه، لا يحتاج لحساب في فعله فيكون على أريحيته، لا يتكلف كلمة ولا يختار عبارة ولا ينتقي تعبيرا، فعندما نشعر أن كلماتنا صارت محسوبة واختياراتنا صارت معدودة فإننا نؤثر الصمت.
نؤثر الصمت كلما يأسنا، ونعتاد الصمت كلما كبرنا.
وبين كلام لم نبح به، ومعان زويت في جدار القلب، تفتر المعاني وبيتعد القريب وتدب الوحدة ونؤثر العزلة.. وفي العزلة، نعتاد أكثر على الصمت."

كعادته يصف ويشرح الشيخ علاء عبدالحميد أبطن بواطن نفوسنا، وكأننا نحتاج لمن يشاور بإصبعه على ما يجري ويقول هذا هو هذا وذلك هو ذلك.
لمَ الصمت ولمَ الاختفاء؟

غياب المستمع، ابتعاد الأحبة، عدم فهم كلامنا وتكذيب ما فهم منه، اختطاف الأمان كله -مجازًا وحقيقة-، فما نفع الكلام؟ وإني لا أعرف ولا أتصور قدرة البشر على التكلم في عاديات الأمور وبداخل قلبهم ثقل الهموم الذي لا يتم البوح به. كيف لا تتجمد ألسنتهم ولا يفسد نظام الجملة ولا يرتبك الوصف ويختل المعنى -في الأمور العادية جدًا- ويوجد حزن ثقيل لم يعبر عنه؟ لماذا يحدث هذا معي فقط؟ اعتزلت الناس، لأني لم أعد أستطيع المجازفة بقلبي مجددًا والوقوف أمام احتمالية الخذلان والكراهية والتكذيب والحكم على الحقيقة بما ليس فيها.

أنا حزينة وحسب. حزينة بحق، وهذا الحزن -دون كذب- هو سبب فقداني لوزني إثر فقداني الشهية، هو سبب بهتان ضحكتي والهروب من زيفه بالهروب من الناس، سبب قلة النوم والتفكير المفرط والأرق، سبب انعدام الطاقة حتى للاكتراث بكل هذا، أو بالناس.

قالت لي صديقة يومًا أننا لن نجد في حياتنا من يفهمنا بالكلية قط، وحينها نحتاج فقط منهم الحب والتقبل والتقدير. وأنا لا أتفق معها البتة، من ذاق عرف، ومن فقد بعد المذاق لا يكون ألمه كمثل الذي لم يقترب من الحقيقة قيد أنملة. رأيت كيف يُفهم المرء، رأيت كيف يكون بصحبة من يفهمه أكثر من نفسه، بل ربما بعيونهم يفهم نفسه ويتقبل الدنيا وما فيها من شرور، رأيت كيف يبني هذا الفهم راحة وأمان واطمئنان، ثم يتحول ذلك لتقدير واهتمام وحب وفير وصحي. رأيت ذلك، ثم خسرته، فلا تحاول إقناعي بالحب مجددًا.
الحب كاذب، الحب مؤلم، الحب ضعف، الحب أنانية وسذاجة وثقل، والحقيقة تقول أن الحب لا يجلب راحة البال ولا الطمأنينة بل عكس ذلك تمامًا، ورهان بناء الفهم على الحب رهان غير مضمون نتائجه، تلاقي الأرواح والأنفس أهم من تلاقي القلوب.

أصبحت أخاف، ليس خوف الجبان ولكن خوف الكيس الفطن. عرفت كيف أن القلب هو أغلى ما نملك، أيقنت ذلك منذ سنين وعملت بمقتضاه، فصرت أحاول الحفاظ عليه بكل ما أملك، أربيه وأخشى عليه فتن الناس وفتن الدنيا كخشية الأم من ضياع ولدها. هل أترهبن؟ فكرت في ذلك مليًا، ولولا وصية رسول الله لصحابي سأله في ذلك مرة بألا يترهبن لأسرعت بذلك. الدنيا دار عمل، وأنا ليس عندي ذرة طاقة، ولكن أُري الله من نفسي خيرًا، وهذا كل ما لدي.

يقول شيخي أني أذكره بحديث الثلاثة الذين دخلوا على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، أحدهم أفسح لنفسه مكانًا في الصف وجلس "أوى إلى الله فآواه الله"، والآخر جلس خلف الصف "استحيى فاستحيى الله منه" والثالث عاد أدراجه "أعرض فأعرض الله عنه"، وأوصاني بأن آوي إلى ركن شديد، حسبي وكفاني..
معاملة "أنا أعرف أني لا أصلح لكني يارب أريد أن يكون هذا مكاني فأوني"، كنت قد قلت منذ عدة سنوات متحدثة إلى الشهداء الذين سبقونا، "حتى لو ماليش مكان فوق، أنا جاية استنوني" ودعاء الشيخ سلمان العودة -فرج الله كربه- الذي ما زلت أردده في أيامي هذه "أناديك بكل ذرة من كياني ألا تتخلى عني مهما بدر مني.. فأنا عبدك الضعيف"
بضاعتنا مزجاة.. مزجاة.. لا تليق به سبحانه، لكن تليق بالتمام بعبد فقير ضعيف، ليس له من الأمر شيء.
تعلمت أكثر ما تعلمت في فَترتي هذه معنى أن يكون الإنسان ضعيفًا بحق. كنت منذ الصغر بي هوس بالقوة، هوس حقيقي جعل أحبّ الحيوانات إلىّ الأفاعي والصقور، جعلني أتمنى لفترة كبيرة من حياتي أن أكون رجلا، فقط لأنه الجنس الأقوى، وأنا أكره الضعف. كنت في كل مرة يوفقني الله لخير أو صلاح أحمده، لكن داخل نفسي ربما أظن أن هذا لأني شخص صالح وقوي بنفسه.
حتى استنزفت قواي تمامًا، فعرفت الله بنقض العزائم، شيء ليس له تفسير إلا أنه تمثيل حقيقي لكوني عبد ضعيف وكون الله وحده هو الإله القوي، فقط.

القوة الحقيقة لا تكون في التزود بالإيمان، هذه مغالطة مفخخة، إذ تعني بالتزود أنك تتزود بالوقود ثم بعدها تسير معتمدًا على نفسك، يعني قوة مؤقتة، لو آمنت بتلك القوة المؤقتة تتساءل؛ إن كنت قد استطعته في وقت قليل لم لا أستطيعه في وقت أطول؟ للأبد؟ طالما سألت شيخي ذلك.. لماذا لا يكون الوصول للقرب نهاية الطريق وبعد ذلك نصمد فلا نقع ويكون الثبات سهلًا ولكن الوصول صعب؟ لكني أدركت أنه ليس كذلك تسير أمور القلوب.
القلوب بين إصبعي الرحمن يقلبهما كيف يشاء، هي في حالة تقلب مستمر، ونحن لا نتقوى بالله، نحن لا نتقوى، نحن نكون أبدًا ودائمًا وحتى نلقاه ضعفاء مساكين، وهو برحمته يعطف علينا ويجود بمنته لنعبر هذه الدنيا بسلام.

القوة الحقيقة تكون في مصاحبة القوي، دائمًا، لندعه يصرف أمورنا ويختار لنا ويدبر لنا ويعلمنا ويلطف بنا حين تشتد بنا المصائب. وحدنا، بإيمان قليل أو كثير، نضيع، لأننا لسنا آلهة؛ وفي عدم تقبل الضعف كبر خفي. هذه الحقيقة التي أدركتها وصارعت نفسي لتقبلها وما زلت أصرعها للعمل بمقتضاها، فاللهم يسر وأعن.

حينها يأتي دور مشاهدة الله، عملية يجب أن تكون مستمرة ودائمة، وهي منطقية بناء على تلك الحقيقة التي قررنا الالتزام بها في حياتنا. الله معي، الله ناظري، الله مطلع علي. كلمات تثقل أي ميزان والله.
الله معي، إذًا كل ما يحدث هو يراه ويعرفه ويريده، يرى رد فعلي ومدى تقبلي وتحملي ويعرف ما سأصير إليه بعده، إذا لا بأس، هذا مطمئن.
ثم حديث معاذ حبيب النبي صلى الله عليه وسلم، "ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك" أيعني يارب أن كل ما تأذيت منه كنت قد كتبته؟ إذًا هو ليس تصرف فلان أو علان، هو تصرف الله، وفي هذا شاهدته، ورضيت به، وأحببته، وطلبت منه تربيته وعونه ولطفه.
نعم أنا حزينة، لكني مؤمنة، وأحب أن أتعلم، فإن كان هذا معنى لا بد لي أن أجتاز تطبيقه -ويا لثقله!- في حياتي لأعبر من هذا بسلام، فيارب لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، فأهلك.
"لو لم يكن الله عونًا للفتى، فأول ما يجني عليه اجتهاده"
ويكون صديقنا في ذلك الصمت والتأمل، وتضميد الجروح، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
ربما يجبر، ربما يرزقنا العوض، أو ربما يقبضنا إليه غير مفتونين ويكون ذلك خير رزق.

Rahma Fateen