Pages

Friday, August 22, 2014

غُربة حتى الجنّة

أنا في المستشفى، مُغطاه بملاءة زرقاء صفيّة ونقيّة كالسحاب، قد طُهِرَت بطارد الملوثات حتى لا أزداد مرضاً، فلا يُعتّب باب جسدي أي مكروب آخر.
أُعاني مرضاً شديداً، ورَم في جسدي لا يريد أن يتزحزح مليماً، يؤلمني في مكان وجوده ويتسرب الألم جسدي كله، يعوق تحركاتي الحرّة ويكتم ضحكاتي الصادقة، أصبح حِملاً على قلبي وعاتقي وأصبح لا يطاق. أريد أن آخذ العلاج، أريد أن أُشفى وأخرج من هذه الغرفة اللعينة، رغم أن بها كل ما يُسعدني من طعامٍ وشراب ورفاهية للترويح عن بؤسي، لكنّي ما زِلتُ بائسة، لدرجة أني رغم حاجتي لدوائي أنسى أن آخذه. لكن لحُسن حظّي رُزقت بممرضة تُذكرني بميعاد أخذ العلاج، وأحياناً تُطعمني إياه لشدة تعبي، أو كَسَلي في بعض الأحيان، لكنها تحترم وتُقدّر حالتي وتساعدني للمرور بما أنا فيه.

يمُر الناس أمام غرفتي وأنا أُحدّق بالباب أتلهف زائراً، المستشفى صاخبة ومليئة بالمرضى والأصحّاء كليهما، لكن لا أحد يمر عليّ. المكان مُزدحم لكنّي وحيدة، المكان مُبهج لكنّي مهمومة.
ورغم كل هذا إلا أنني أحببت المكان فعلًا وأحببت من فيه، كان يُشعرني بالحميمية والحب الّذين لم أشعر بهما قبلًا بهذا الشكل، كان يشعرني بالأمان.
تداويني الطبيبة رويداً وبعد صراع طويل تخبرني أنّي تعافيت، لكن سنين عمري لن تطول، لم أهتم، على الأقل سأتحرر وأخرج للناس وقد أصبحت مثلهم، صحيحة.

خرجت، لكنّي لم أصبح مثلهم. فتحت باب غرفتي وخطوت خطواتٍ واثقة ابتسم للجميع وهم يردّون عليّ بالتحديق وكأني أرتدي بدلة مُهرّج، لم أنل الترحيب الذي توقعته.
تبدلت نظراتي، وجّهت وجههي ناحية الأرض سائرة وسط الجموع مستسلمةً لواقع أني أصبحت غريبة.
غريبة لأني شعرت بالألم من الورم الذي يوجد في أجساد الجميع، غريبة لأني صمّمت على انتزاع الورم، غريبة لأني قررت أن أتطهر من خبث ورمي. لكن لم أستطع العيش، لم أستطع أن أعيش غريبة لوقت طويل لأن هذا ليس مكاني، حذّروني أني لن أعيش طويلاً، وكنت أنتظر اللحظة بفارغ صبري، لحظة عودتي لمكاني الأصلي، مكاني الذي أستحق، المكان الذي ذهب إليه الغرباء من قبلي عندما تطهروا من خبث ورم الجميع أيضاً، المكان الذي لن أكون وحيدة مُجدداً فيه. أهلي. جنّتي.

Wednesday, August 6, 2014

تعايُش؟

من أهلنا وأصدقائنا ودائرة معارفنا من فوّض لقتلنا وشمَت في دمائنا، أُناسٌ نعيش معهم في مجتمعنا ووَجَب علينا التعامل معهم بين الحين والآخر.
نعتبرهم أخطاء في الإنسانية، عيوب في البشرية، نريد أن نضعهم في بلدٍ ونُلقي بقنبلةٍ كالهيروشيما نَقضي عليهم ونشفي غِلّ صدورنا.

دُعاة خرجوا إلى مثلنا يدعونا للتعايش معهم، للتعايش مع من رقص على دَمِنا، لتهنئتهم في العيد، واللهو معهم وكأن شيئاً لم يكُن. وكأن أخي لم يمُت بسببِهم وكأن أبي يأكل غذاءه كل يوم معنا لا بين أربع جدران حبيس! يريدونا أن نعيش حياة مُزيفة، نضحك لمن ضحِك وقت بُكائنا، ونفرح مع من فرِح وقت عزاؤنا. يريدون حياتنا كلها أن تكون حبٌ في الله ولا نأبه لشيء يُدعى البُغض في الله.
صددناهم، وكرهناهم، وصنّفناهم مع فئة قاتِلينا ومؤيديهم، نسينا فضلهم علينا وجعلنا منهم شياطين.
في حين أننا نتعايش بالفعل، نتعايش مع أخطاءٍ ارتكبناها ونَبيت الليالي دون تصحيحها، نتعايش مع عيوب في شخصياتنا تضُر غيرنا نعرِف أنها فينا، لكن تمُر الأيام ولا نُغيرها. نتعايش مع ذنوبٍ أغرقتنا ونرى طوق النجاة ولا نسبَح إليه، فقط نقول "عندما أكبر" "لاحقاً سأفعل" "رمضان القادم"… إلخ

لماذا نأخذ موقفاً صارماً فورياً من أخطاء البشر ونُنّشِد أشعار مثل: "لا تُصالِح" ونبني كهف لمجتمعنا الطاهِر الّذي لا يخطئ -كما ندّعي- نتقوقع فيه لا نخرُج منه، نعرِف شياطين الدُعاة جيداً ولا نسمع لكلامهم بل نَنفرهم ونُحذّر الجميع من شرورِهم، ولا نفعل ذلك مع أنفُسِنا؟
نؤجل توبتنا أياماً عديدة وسنوات ويمُر عمرنا ولا نأبَه، نُعَرِضُ قلبنا النقيّ بفطرتِهِ لمُلوثات الحياة ونعيش وسطَها ونلهو حسب هوانا. لا نعرِف شيطاننا، نستمع إليه ونسير خلفه عُميانا.

لماذا لا نتكلم كثيراً عن حالنا مع الله مثلما نفعل مع حالنا مع الناس؟ أعتقِد أن علاقتُنا بربِنا، من نِعم وحب وعطاء وعَفو ومغفرة ورِسالات وجَبر قلوب وووو، أجدر وأحقّ بالتحدث والتفكير فيه من علاقتِنا مع البَشر.
"… فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاق"
في النهاية، نحن -أجسادُنا- نعيش في هذه الدُنيا ك-عابِري سبيل، لن نبقى، سواء تعايشنا مع المفوّضين أم لا، لن نبقى، سواء تصالحنا معهم أم لا، لن نبقى، كل ما سيبقى هو عمَلُنا وقلوبنا وروحنا التي ستصعد لِربها عند الموت.
"إنّ اللهَ لا ينظُر إلى صوَرِكُم وألوانِكُم، ولكن ينظُر إلى قلوبِكُم وأعمالِكم".