Pages

Sunday, September 28, 2014

أحب الجنازات



أحاول امتصاص الخبر، أحاول استيعابه بكل قواي الجسدية والعقلية والروحية، كالإسفنجة التي تمتص الماء، إن امتصتها في الطرف فقط، أصبحت ثقيلة وهَوَت.
لا أتكلم، لا أمزح ولا أبتسم، أُهيّئ نفسي لما أنا مقبلة عليه من بكاء وهول موقف الموت والقبر. قلبي حجر، حَلقي أصبح جافاً وأنا أخطو خطواتي للمسجد. أدخل و وأرى الجميع حولي يرتدون الأسود، إلا أهل الشهيد يتزينون. أبتسم في داخلي ويبدأ قلبي يرفّ. لن أستطيع التمالك طويلاَ. أفحَص أهل الشهيد بتمعّن، لا شك أن الله قد أنزل ملائكته تحنو عليهم، من أين لهم بهذا الثبات والرضا؟ أقترب لأضع قُبلة على جبينهم، الأبطال، أرى وجوهاً مُنتفخةً من البكاء وعيوناً صارخة تطلب الانتقام والقصاص. ربما تنزل دمعة أو اثنتان، لكن علي التماسك. أعود للخلف وآخذ مكاني، أصلي ركعتين تحيةً للمسجِد، وتأتي اللحظة التى أكتب لأجلها..
لحظة السجود، أقرب ما يكون العبد من ربه، تنفجر أكياس الدموع في عيني وأنا أتخيل وجوه إخوة الشهيد الجميلة تتألم لفقدان أخوهم، أتخيل ألم أمه وهي تتذكر ابنها، أتخيل الفراق الذي لم أحسه من قبل، لكني أتخيله بتفصيله وأعيشه. وأدعو وأدعو وأدعو.

أنتهي من صلاتي وأمسح دموعي ولا أنظر في وجه أخت الشهيد، هي ترمقني وأنا أبكي، أخجل حين أراها متماسكة، لا أعرفها لكن أريد ضمها إلي واحتضانها، وإخبارها أن أخاها قد صعد لجنات النعيم، تأخذني الأفكار إلى ما لا أشتهيه، فأشرع في البكاء مجدداً، حتى ينادي الإمام للصلاة، أحب الصلوات إلى قلبي.

"التكبيرة الأولى قراءة الفاتحة، التكبيرة الثانية الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التكبيرة الثالثة الدعاء للميت، التكبيرة الرابعة الدعاء للمسلمين ولأموات المسلمين"
حفظت تلك الكلمات، أنتظر التكبيرة الثالثة بفارغ صبري للدعاء للميت الذي ألهم كياني، يبدأ الإمام الله أكبر
*هذا الجزء يعطي الكاتبة مشاعر لا توصف، شعور نقاء وصفاء مختلطة مع رجاء وهيبة، شعور غبطة وشعور شفقة، خليط من المشاعر إن حاولت كتابتها ستصبح مبتذلة لا روح فيها وستفسد جمالها*
هذه هي صلاة الجنازة بالنسبة لي، أرقّ وأرقى الصلوات التي أصليها في حياتي.

ربما سر حبي لهذه الركعة، هو أنها تذكرني بأن الحياة ألم وفراق، والجنة هي دار الخلد التى نبقى فيها مع أحبابنا إلى أبد الآبدين، ربما أحبها لأنها تجدد إنسانيتي، فرغم اني لم أفقد أي قريب مني، ففي صلاة الجنازة أتألم لألم غيري كأنه ألمي أنا، ربما أيضاً أحبها لأن الأجواء في المسجد وقتها تملأها السكينة والراحة، لا نرى من يباغض بعضه ولا من يشاحن بعضه، نرى الزهد والبساطة، كأن المشهد بأكمله يجهز للنزول إلى القبر، ليس فقط من بالنعش.
من أكثر المشاهد التي تهزني في الجنازات، حمل الناس لنعش الميت والتفافهم حوله وبكاء الرجال، تتسارع دقات قلبي مع اضطراب ذهني الذي يفكر في اليوم الذي سأُحمل أنا فوق الأعناق، لا بطلةً أُلقي خطاباً وأرمي ورودا، لكن عاجزة، ميتة، لا حول لي ولا قوة، في طريقي لقبري الذي سيكون إما أخضراً سعيداً أو مليئاً بالأشواك.

صلاة الجنازة ترد فيّ الروح، تُفيقني من غفلتي، رغم أنها دائما تصطحب معها الكثير من الحزن والأسى، لكنها تعيدني لأصل العبد، ذليلة لربي.

أحب الجنازات


Rahma Fateen

No comments: