Pages

Showing posts with label ramadan. Show all posts
Showing posts with label ramadan. Show all posts

Sunday, April 7, 2019

تهديد الروح

عرفتُ الإنسان، ونفسي، كما عرفه ربه؛ مكوّنٌ من جسدٍ وعقلٍ وروح، ولا يكتمل سواءه إلا بالتوازن بين تلك العناصر الثلاث، ولا يتم الاتساق الذاتي الذي يُبعد الاغتراب الوجودي في أي من العصور إلا عند إعطاء كل عنصر حقه وما يحتاج. فالإنسان الأكثر اتساقًا مع إنسانيته، هو من يُلبّي حاجة جسده من مأكل ومشرب وجنس، ويلبي حاجة عقله في المعرفة والتكفير والتفكر، ويلبي حاجة روحه بالاتصال بالإله الذي بثّ في روحه الحياة ولا تستمر -حرفيًا ومجازيًا- إلا بإذنه.
في محاولة الحفاظ على حياة سوية وإنسانية بسيطة، يشعر الإنسان بالتهديد حيال كل ما ينقِص من حاجات عناصره، أو لنكون أكثر دقة؛ تحديدًا عنصر الجسد، وقليلٌ يعبأ بالعقل ويدافع عن حقه في التفكير الحر والإعمال دون جبر أو تكلف. فترى الواحد منهم يخطط لحياته بأكملها لتفادي الفقر والجوع والعنوسة، ماذا سأدرس في الجامعة لأحصل على الشهادة التي تؤهلني للوظيفة ذات الربح الوافر الذي يضمن لي الغنى وعيشة مرموقة وزوجة تشبع حاجاتي؟ تلك حياة مستقرة هادئة سعيدة، يظن أنها بسيطة وإنسانية، لكنها في الحقيقة "حيوانية" -لا إساءة متعمدة-.
الأرقى قليلًا تراه يُعمل عقله دائمًا، قد يلقّبه من حوله بالعنيد الثائر، لا يقبل القوالب ويطالب بحقه في التفكير والاختيار بكامل إرادته الحرة. الذي يحافظ منهم على قدراته العقلية من الانهيار، بل يطورها ويستفيد منها لصناعة الأفكار والنظريات وتحليل المظاهر حوله ثم التفكر فيها؛ يكون قادرًا على الحكم على الواقع الذي يعيشه وما إذا كانت هذه الحياة التي تتسق مع مبادئه وما يؤمن به، فيغيره، أو يطوره، أو يرضى به وينظّر دون تطبيق على عالمه لأنه يركَن إلى عنصره الحيواني كذلك.
علّك تظن الآن أني سأصف المعتني بالعنصر الروحي كتسلسل للحديث، أليس كذلك؟ لكن هذا مربط الفرس والسبب وراء كتابة مقالي هذا.
بداية؛ هناك صورة نمطية لـ"الروحانيين" أو أولئك الذين يهتمون بحاجة أرواحهم في كل وقت لدرجة التحدث عن الروح وأصله واحتياجاته ومراقبة حاله طوال الوقت كما تراقب الأم غذاء طفلها الصغير. يخيل إلينا أن هؤلاء هم المتصوفون مثلًأ، أو الراهب الذي يعتزل الناس ويترك حياته ويزهد في الدنيا بأسرها. لكن هذه الصورة ليست الصورة التي أقصد، فكما قلنا في البداية تمام إنسانية الإنسان تكون في التوازن في كل الأحوال، ولا يمكن أن يحظى عنصر باهتمام أكبر، مهما بدا ذلك العنصر نبيلًا أو شريفًا.
(طغيان عنصر على الآخر قد يتم الإشادة به في فترات قصيرة، مثل الصيام من الفجر إلى المغرب لمدة شهر متواصل، أو الاعتزال للاعتكاف لفترات وجيزة، وذلك يكون في إطار تربية النفس على عادة أو معنى معين، ثم بعد ذلك يرجع الإنسان إلى طبيعته)
هامش: بعض النماذج المشهورة استطاعت اختيار عنصر وتصنيفه الأهم بين بقية العناصر وعاشت حياتها تعتني به وتهمل الآخرين، لكن تلك نماذج نادرة الوجود، ولست هنا في مقام الحكم عليها، لكنني أتحدث عن الإنسان البسيط الطبيعي كامل الإنسانية غير مميز الذاتية بالضرورة لكن متسق معها.
على المستوى الثالث، يقابل الإنسان في رحلته للسواء تحدٍ بالغ الصعوبة في عصر الحداثة والعلم، إذ أنه بعدما أعمل عقله وانخرط في عالم الأفكار والمعرفة انخراطًا أثّر على منظوره للدينا شاء أم أبى، يفشل في تحقيق التوازن رغم كل شيء.
لأنه يكون أحد النموذجين، إما متجبر بعقله جاعلٌ من نفسه إلاهه، فيستغنى عن الرب تمامًا إيمانًا منه أنه بعقله قد وصل وباستطاعته فيما بعد الوصول لأي شيء يحتاج إليه وأن يتحدى كل الصعاب التي تواجهه في الدنيا لأنه سيدها..
أو متمسكٌ بدينه وبشعائره، ولكن على المستوى الخاص جدًا أو في الأمكان المخصصة لذلك، كالمساجد أو دروس العلم الشرعي، أو بيته وحياته الشخصية فحسب.
في عالم علماني يفصل الدين عن كل شيء؛ يجعل الدين محصورًا في المجال الخاص وحده ويحرم (ويجرم أحيانًا) وجوده في المجال العام، يفقد الإنسان إنسانيته.
أنا هنا لا أتحدث كما يدندن الإسلاميون عادةً في حديثهم على أن الدين الإسلامي فيه أكثر من الجانب الروحي الخاص فقط وبه من القيم والنظم ما ينظم مجتمعات ودول بأكملها وجميع شؤون الناس، وإن كنت لا أختلف معهم، ولكن حديثي هنا وجودي-ذاتي أكثر، ليس معنيًا بشخصي تحديدًا ولكن بذات الإنسان.
فصل الدين -الذي هو في أساسه عقيدة وإيمان؛ فاتصال بإله أعظم- عن الحياة يجعل الإنسان ناقص الإنسانية.
تخيل أن تطالب بالعيش دون عقل، أو تعطيله لبضعة أيام في مشروعك، أو لبضعة ساعات حتى تنتهي من بحثك، هراء أليس كذلك؟
في المجال العملي تطالب بأن تترك قيمك ومبادئك في المنزل قبل أن تصل لمكان العمل، في المجال العلمي تطالب بأن تنسى انتماءاتك ومصادر الحكمة والمعرفة التي تأتي في سياق ديني أو من خلال كتب سماوية أو رسل أو تجارب شخصية، لا يمكن أن تضع مقولة شيخك مثلًا في قائمة المراجع لأنه مرجع غير علمي!
ومع الوقت تقدم التنازل تلو الآخر حتى تستطيع الانخراط في المجتمع العلمي أو العملي وترقى بمعاييرهم فتحقق نجاحات تلو الأخرى، وأنت لا تدري أنك تنقص من إنسانيتك يومًا بعد الآخر.
ويبقى السؤال، هل يستحق اللقب المرموق والإسهام الذي سينقذ البشرية أن تضحي بإنسانيتك؟
إن قلت تصبح مدير شركة عالمية ولكن لا تأكل للأبد تقول قطعًا أرفض، لكن ماذا عن روحك؟ هل تشعر بهذا التهديد أصلًا؟ أم لأن أثره معنوي وغير ملحوظ فهو غير ضروري ولا شائك؟
أزعم أن أثر عدم الاكتراث بالروح بالغ الضراوة ويفرض نفسه على حياتنا في الحقيقة بصورة سلبية، ولكن لأن وعينا بنفوسنا ضئيل وثقافتنا باحتياجات الروح؛ ودوره في سلامتنا وهدوءنا ورقينا؛ وانعكاس كل ذلك على تصرفنا وفعلنا تكاد تكون منعدمة، ذلك يجعلنا لا نلحظ التأثير فلا نقيسه ولا ندركه، وطبعًا تبعًا لذلك لا نعمل على الاعتناء به ولا مراقبة أطواره.
فإلى جانب جهلنا بجزء يمثل ثلث مكنوننا،؛ والذي يؤدي إلى تقصير في حقه، هل أصبح الانخراط في هذه الحياة بشكلها المادي العلماني تهديدًا واضحًا لأرواحنا، أم أن الأمر ما زال فيه سعة للجهاد والحفاظ على ما تبقى منها رغم التحدي؟


Rahma Fateen

Saturday, August 18, 2018

رسالة مفتوحة إلى أختي الكبرى في يوم زفافها



(١)
انتظرت هذا اليوم بفارغ الصبر، وخشيت قدومه حدّ الأرق، لحسن الحظ (أو لسوءه أحيانًا) لا يكذب وجهي ويشرح كل ما بداخلي وكأنه زجاجٌ، كنت أسعد خلق الله على وجه أرضِه، وفي الوقت ذاته الأكثرَ حزنًا، والأكثر اشتياقًا إليك قبل حتى رحيلِك، مزيجٌ من المشاعر لا يمكن وصفه، غير قابل للحدوث أصلًا لولا أنه من صنع الله، كجمالك الليلة، أضعاف جمالك في كل ليلة كنت أتأمل فيها وجهكِ الهادئ المنير لدقائق طوال حتى تلتفتي على استحياءٍ ونضحك فأقول "انتي مضحكة اوي" هربًا من الاعتراف أني قد أُسرت من النظرِ إليكِ. وتلك ليست كل الحكاية!

(٢)
كان لدي أُمّان، الأم التي حملتني وأرضعتني، والأخرى -أنت- التي أظن أنها لم تكن تمانع من حملي إن كان الخيار بيدها، فهو أمر أعلى من عطاءها نقرة واحدة فقط. ورغم أننا متضادين ومختلفين في معظم الخصال والآراء، إلا أنك أنتِ من شكّلتني، أنتِ من اخترتِ لي اسم بريدي الإلكتروني الأول، الذي -بعكس الناس- لا أستحيي منه، أنتِ من علمتني أن أكتب، فصار ذلك شفائي ولكِ كل الثواب، أنتِ من أضفيتي على البيت -وعليّ- العنصر الأنثوي اللطيف الجميل، الذي (سأحتاس) فيه بدونك، "منة الطرحة دي لايقة؟"، سأخرج من المنزل الآن باحتمالية أن تكون ملابسي غريبة الأطوار مثلي..

عزيزتي منة؛
منة، أخبرتكِ قبلًا عن هوسي بالأسماء؟ حفيدة العائلة الكُبرى وأختي الوحيدة واسمها منة! هل سيمُنّ الله عليّ في حياتي بما هو أغلى منك؟ لا أظن
كثير ما كنت أقول في نفسي، فتاة مثلك، في جمالك وعلمك وأدبك وخلقك وحيائك ورقّتك، مَن مِن الرجال يستحق حتى إصبع رجلكِ؟ كنتُ أحضّر خطابَ تهديدٍ لذلك الرجل الذي سيحاول الاقتراب منكِ؛ أن احذر! إن فكرت في أن تمَسّها بسوءٍ فعليك اللعنات منّي طالما حَييت، لكنّي وجدته رجلًا مُصطفًا أنزلكِ في قلبه منزِلًا يُطمْئن، وجدتكِ سعيدة معه، رغم غيرتي الشديدة، لكن سعادتُكِ سعادتي، قد فشلت في إسعادَكِ مراتٍ عديدة، أغضبتُكِ وشددتُ شعركِ وأفسدتُ ورقكِ المُعلّق على حائط غرفتنا (أتذكرين ذلك اليوم؟ هه كنتُ شريرة جدًا)، فشلتُ في أن أحظى بقربكِ حتى قررنا في لحظة الافتراق في غرفٍ منفصلة، لكني كنت أعود إليكِ وأطلب النوم على الأرض إلى جانب سريرك.. 
ربما ستجدين فيه صديقًا أفضل مني، لكنكِ في النهاية وقبل كل شيء أختي من لحمي ودمي، لن يحبكِ أكثر مني مهما حاول
(وذلك تهديد ضمني لا يضر)

(٣)
ستكونين أُمًا رائعة، أتخيلُ بناتكِ، يا ألله نسخ كثيرة مُصغرة من منة ما هذا الجمال؟ يحتاج العالم لمزيد منكِ حتمًا ليكون مكانًا أفضل. أفواه غير أفواهنا ستذوق وجبات الفطور المُعدة بتعليمات مقاطع الفيديو، ووجبات الغذاء من أصناف البلدان المختلفة، المكرونة بالصوص الأبيض والفاهيتا التي تتحول في بعض الأيام للمكرونة سريعة التحضير (إندومي) لأنكِ لا تريدين الطبخ، من سيقوم بإعداد شرائح البطاطس المقلية في (انصاص) الليالي؟ الكشري في وجبة السحور والبكاء من العطش طوال اليوم، ثم رمضان وتراويح بدونك؟؟ لم أكتفِ بعد.

(٤)
عشرون عامًا في حَضْرَتكِ لا تكفي أبدًا أبدًا أبدًا، عشرون عامًا أنظر إليكِ وأتطلع في كثيرٍ من الأمور وأقتدي بكِ في كثيرٍ آخر.

ختام كلامي سيكون أن كوني كما أنتِ؛ بفطرتكِ النقية التي لم يستطع العالم المتسخ أن يخرّبه، بقلبكِ المعطاء الذي لا ينتظر مقابل، بخُلُقكِ النادر وحُبكِ لله الذي يفوق حبكِ للبشر، بتقواكِ وحفاظكِ على حدود الله، يكفي المديح أليس كذلك؟ أريد فقط القول.. سترحلين، لكني أريدكِ "منة" مهما زادت المسافات ومرت السنين، لا غربة في وجودك، ووجودك حاضر في قلبي حتى في غيابك.
أعطِ نفسكِ حقها، وأعطِ مصطفى ودًا ومودة ورحمة، املئي بيتك بروحك التي بداخلك وسيكون بيتًا ينظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ويبتسم.

أحبك كثيرًا،
أختك الصغيرة،

رحمة.



Rahma Fateen