Pages

Sunday, February 3, 2019

في سبع سنين: هل الأمر حقًا بهذا السوء؟


في سبع سنين مرت منذ ثورة 25 يناير 2011، وقعت العديد من الأحداث السياسية المحورية في مصر والوطن العربي، التي أثّرت بطبيعة الحال على واقع المجتمع المصري، وأثّرت على فئة الشباب بشكل واضح لا تخطئه عين، وبشكل عميق هزّت قناعات ومعتقدات ومسلّمات مترسخة وقلبتها رأسًا على عقب. 

يوصف المجتمع المصري بأنه "شعب متدين بطبعه"، وكما أشار فيلم الجزيرة الوثائقي -الذي نحن بصدد نقده-، فإن شعب مصر في 2009 كان يصنف الأكثر تدينًا على مستوى العالم، وفق إحصائيات عالمية. الدين في مصر يعتبر ركيزة أساسية يستند إليه الأفراد في حياتهم وقراراتهم وتفاصيلهم الدقيقة، وإن كنا نريد دراسة تأثير الصدمات والأحداث السياسية على المجتمعات فمن المنطقي جدًا والضروري -تحديدًا في حالة مصر- أن ندرس التغيير الذي طرأ على مركزية مفهوم الدين في حياة المجتمع المصري.

لأجل هذا، وجدنا وثائقي الجزيرة على وشك تناول أمر غاية في الحساسية والأهمية، وتأملنا في المنتج النهائي خيرًا، لكن خابت
 الظنون..


كان من المهم بداية وقبل كل شيء، الوصول لتعريف واضح لـ"التدين"، إن كنا نريد قياس التغيير الذي طرأ عليه، حتى نستطيع الإشارة إلى مؤشرات قابلة للملاحظة والمقارنة قبل الحدث وبعده. 

هذا إلى جانب أهمية الوصول لتعريف واضح للـ"تحولات الفكرية" أو المسائل "الفكرية" عمومًا، لأن الدين لا يكون فكرًا -فيما أرى- إلا إذا كان مغلفًا في غلاف أيديولوجي، وهو أمر بعيد كل البعد عن المسألة الإيمانية القلبية، التي نظن أنها المؤشر الأساسي للتدين لدى الأفراد. 

التباس هذين المفهومين يوضح تحيز مسبق في عقلية الباحث الذي قد يرى أن الدين أيديولوجية بالضرورة، أما غياب هذا التوضيح جعل النتيجة النهائية التي توصل إليها مخلة بعض الشيء؛ زاد عدد الناس الذين لا يرون الحجاب فريضة، لكن ماذا لو زاد أيضًا عدد الناس الذين يتدبرون آيات الله في الكون فيزيد إيمانهم كل يوم أكثر من اليوم السابق؟ ألا يمكن أن يكون ذلك أيضًا مقياسًا للتدين؟ 

لا نرفض أي تعريف يختاره الباحث لكن نرفض غياب التعريف، الذي يؤدي -كما حدث- لسيولة في المفهوم المتداول على مدار البحث والفيلم الوثائقي وتبعًا لنتائج غير علمية.


النماذج التي تم اختيارها حولها العديد من علامات الاستفهام؛ على أي أساس تم اختيار هذه النماذج تحديدًا وخلفياتهم مختلفة أشد الاختلاف عن بعضهم البعض، والحال الذي آلوا إليه أيضًا مختلف أشد اختلاف؟ كيف تم ضبط هذه المقارنة للوصول للنتيجة التي تقول أن الأحداث السياسية جعلت الشباب يبتعدون عن الدين؟ بدا لنا أن معظم النماذج تعرضت لصدمات نفسية أدت إلى نفورهم من الدين لأسباب عاطفية، لكنهم ليسوا مقتنعين أشد الاقتناع بما وصلوا إليه لنطلق على ذلك "تحول فكري". الأمر لا يعدو كونه حالات نفسية لم يتم معالجتها بشكل صحي جعلتهم يلجأون للتشكيك في كل شيء والاستعداد للتخلي عن كل شيء -كما أكد غير نموذج تم عرضه-. وليس في ذلك ما يقلل من أهمية دراسة هذه الظاهرة، ولا في قوة تأثير العاطفة على الفكر، لكن ينقص البحث معالجة علمية سيكولوجية تتناول الصدمات كاقتراب يدرس بها الحالات من خلاله.


الأمر الآخر والأهم، والذي هو ربما الدافع وراء كتابة هذا المقال، هو أن البحث لم يعرض أي جانب مضيء للأحداث. نقول أن الأمر ليس بهذا السوء، وإن كانت ظاهرة البعد عن الدين تفشّت بقوة وتغلغلت بشكل ملحوظ، إلا أن هناك النقيض تمامًا الذي لم يتم التطرق إليه على الإطلاق. وكأن الباحث عنده قناعة ما سوداوية لحال المجتمع المصري -والذي قد يكون حقيقيًا- وحاول تقديم نماذج تثبت اعتقاده وليس تناول المسألة بشكل موضوعي وشامل للوصول فعلًا لفهم أعمق للواقع وربما أدوات تغيير فيما بعد.


ماذا عن العائلات التي ضحت بجميع أفرادها رحبة الصدر؟ ماذا عن زغاريد أهالي الشهداء؟ ماذا عن ثبات المعتقلين؟ ماذا عن تحركات الناجين من الاعتقال لأجل الإفراج عن بقية زملائهم التي لم تتوقف؟

توقفت للحظة وقلت، ماذا عني؟

كان الفيلم بالنسبة لي ظالمًا جدًا للأحداث التي شكلت أكبر جزء من شخصيتي وشخصية الكثيرين ممن أعرفهم، أنا ممتنة لكل قنبلة غاز شممتها وكل سباب سمعته وكل نقطة دم سالت تحت أقدامي (وغيرها من التجارب المؤلمة جدًا) لأنها جعلتني أسأل؛ ما الحكمة من وراء هذا؟ وليس "أين الله من كل هذا؟".


تساءل الباحث عن مدى التقاطع بين الشأن العام و الشأن الخاص، وهذا الانفصال في بداية الأمر مشكل أساسًا، إذ أن الوجود الإنساني يعتمد بشكل أساسي على التفاعلات الشخصية اللاحقة بالأحداث التي تقع دون تصنيف، متى تفاعلت شعوريًا بحدث ما أصبح حدثًا شخصيًا.


من المسلّمات التي أؤمن بها في ديني (الذي شككت فيه أيضًا بعد الأحداث وعدت أؤمن به بقوة أكبر) أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، لا يضع الإله المتحكم في الأقدار رجلًا في الاعتقال إن لم يكن يعلم أنه قادر على تحمل تبعات ذلك كله. ويقول سبحانه في كتابه "وهديناه النجدين"، وهذه مسلّمة أخرى مهمة في هذا السياق، وقتما وضعت في اختبار ما، أنت قادر عليه، وأمامك الطريقين تسلك أحدهما بإرادتك الكاملة.

الأحداث كانت مؤلمة، جدًا.. الأحداث كانت فاصلة ولم يكن يومًا الطريق سهلًا ولا الاختيار بديهيًا. أما الأصعب من التحول الفكري، هو التعامل مع الأثر النفسي والتخلص من وحش الاكتئاب والجمود وانعدام الرغبة في الحياة التي تزيد الأسئلة الفكرية تعقيدًا وتضع نفوسنا وأرواحنا -التي نجت جسديًا من الرصاص- على المحك كل يوم وكل ليلة لا نهنأ فيها بنوم. 


لكن، أعود وأقول أن الأمر ليس بهذا السوء، والخطاب المتشائم في ذكرى الثورة الثامنة أمر شائك قد يؤدي لكراهة الحدث الطاهر الصحيح الأوحد الذي قام به الشعب المصري منذ ولدتهم أمهاتهم، ظنًا أنه السبب في الحال الذي وصلنا إليه. إن كان الأمر فعلًا بهذا السوء أو أسوأ، فإن طريقة البحث عنها ودراستها يجب كذلك أن تكون أعمق، وأن تسعى للتفتيش وراء الأسباب النفسية لاختيار تلك الاختيارات بشكل حقيقي وليس فقط رصدها أو إلقاء اللوم على أحداث محايدة تمامًا. 

أؤمن أنه كما أن للأفراد حرية الاختيار بين طريقين يتضح ملامحهما مع البحث والرغبة الحقيقية للوصول، كذلك حال المجتمعات والأمم. وأول خطوة في اختيار الطريق الذي نسلكه هو اتخاذ القرار بارتداء أي نظارة ننظر من خلالها للعالم ونسأل منها أسئلتنا التي ستكون وقودًا للبحث والوصول. 


أنا أمتن لثورة يناير بالكثير، وأمتن للإله الذي أحب وأؤمن به أن جعلني أعيش هذه الأحداث التاريخية عن قرب.

Rahma Fateen

No comments: